المجتمع المدرسي وثقافة التواصل
الدكتور/ سعيد بن سليم الكيتاني
تحدثنا في العدد الأول من هذه النشرة عن حتمية التواصل للتجديد التربوي كمدخل عام تبنته الوزارة في جهودها المضنية والمتواصلة من أجل تحقيق التطوير التربوي الذي تتوخاه الدولة بالصورة المنشودة. وقد تناول ذلك المقال عدداً من القضايا المرتبطة بموضوع التواصل وأهميته في إدارة التغيير ومساعدة القائمين على عملية التغيير في اجتياز قناطر التحول من وضع تربوي إلى وضع آخر افضل، كما أشار المقال كذلك إلى بعض المشاريع التربوية التي بدأت الوزارة في تنفيذها تجسيداً لمبدأ التواصل في التجديد التربوي. في هذا المقال أود أن أتطرق إلى بعد آخر من أبعاد عملية التواصل في المنظومة التربوية ألا وهو دور ثقافة التواصل في تحسين المجتمع المدرسي.
النظر إلى المدرسة كمجتمع مصغر مسألة قديمة أشار إليها العديد من الفلاسفة والمفكرين والتربويين من أمثال أفلاطون وابن جماعة وجون ديوي وفيجوسكي وغيرهم، وهي بذلك لا تحتاج إلى تأكيد في هذه العجالة. هذا التشبيه للمدرسة بالمجتمع يعني بالضرورة أن هناك قواسم مشتركة بين المدرسة والمجتمع بل لابد أن تكون المدرسة نموذجاً مصغراً للمجتمع لكي تكون مؤسسة تربوية ناجحة، لذلك نجد أن بعض التربويين يعرفون المدرسة بأنها: "عبارة عن مؤسسة اجتماعية أقامها المجتمع من أجل تربية أبنائه وتثقيفهم ليصبحوا أعضاء صالحين في المجتمع يشاركون في بنائه بما يعود عليهم بالنفع المادي والمعنوي" (التل وآخرون، 1993).
هذا التشبيه ليس بسيطاً كما قد يبدو للوهلة الأولى لأن المشبه به وهو المجتمع يعد ظاهرة معقدة إلى درجة أنه يصعب تعريفه بصورة مباشرة وواضحة كما يشير علماء الاجتماع، حيث أنه عبارة عن مؤسسات وعلاقات متداخلة ومتشابكة تتفاعل بأسلوب يصعب فهمه والسيطرة عليه. Flucher & Scott, 1999)) مثلاً يعرفان (socialization) بأنه عبارة عن عملية تحويل الفرد إلى عضو في المجتمع غير أنهما يقرران في الوقت ذاته أنه ليس من السهل إعطاء تعريف قصير لشيء معقد مثل المجتمع. ولا ريب في أن البعد الإنساني للمجتمع عامةً وللمجتمع المدرسي خاصةً يمثل أحد الأسباب الرئيسة لصعوبة فهم المجتمعين والتعامل معهما. ولكي لا نخرج من الموضوع الأساسي لهذا المقال دعونا ننظر بشيء من العمق إلى هذا البعد في المجتمع المدرسي من خلال تناول بعض جوانب موضوع التواصل على المستوى المدرسي.
المدرسة كأية مؤسسة أخرى تتكون من طبقات هيكلية تنظيمية تربطها علاقات وظيفية وفق مهام المنتمين إلى كل طبقة من تلك الطبقات، فهناك مدير المدرسة ومساعد المدير والمعلم الأول والمعلم وغيرهم من الكوادر المساندة التي تساهم في بناء المناخ التربوي السليم الذي يكفل لعمليتي التعليم والتعلم الاستمرار بشكل فعال. هذا التنظيم الهرمي للمدرسة- رغم كل ما قد يقال في التنظيمات الهرمية- ذو أهمية بالغة في ضمان حسن سير العمل في المؤسسة المدرسية، غير أننا يجب كذلك أن لا نغفل جانب العلاقات الإنسانية الحميمة التي ينبغي أن تربط العاملين في تلك المؤسسة إذا كنا نتطلع إلى مؤسسات تربوية منتجة بكفاءة وفاعلية، فغياب مثل تلك العلاقات يؤدي بلا ريب إلى خلق أجواء غير تربوية وعائقة للاستثمار الجيد للبيئة المدرسية في تطوير العملية التربوية التعليمية.
تشير الدراسات الحديثة في مجال فاعلية المدارس (school effectiveness) إلى أن تميز المدارس في هذا المجال مرتبط إلى حد بعيد بفاعلية وتميز التواصل بين أعضاء أسر تلك المدارس. فالقيادة بها مثلاً قائمة على أساس إشراك مختلف أعضاء أسرة المدرسة في اتخاذ القرار عوضاً عن انتهاج النهج السلطوي في اتخاذ القرار، كما تتبنى تلك المدارس سياسات تعتمد على تشجيع الممارسات الجيدة والمتميزة بأساليب مختلفة كمدخل إلى تغيير السلوك عوضاً عن استخدام العقاب. هذه المدارس توصف باختصار بأنها مدارس متحدثة، حيث أنها تكوّن رؤيتها للأمور بصورة مشتركة وتكثر فيها اللقاءات والاجتماعات الهادفة لتبادل الرأي حول مختلف القضايا المدرسية (أنظر مثلاً Harris, 1999). بخلاف هذه المدارس، تشير الدراسات إلى أن عدم فاعلية بعض المدارس يعزى إلى انعدام مثل هذه الأجواء المحفزة والمشجعة للعطاء والبذل بسخاء في العملية التربوية التعليمية.
التواصل الفعال إذن يمكن اعتباره أحد عناصر البيئة المدرسية التي تنتج ما يعرف اليوم في لغة الاقتصاد بالقيمة المضافة (value-added) في العملية التربوية التعليمية، فهو يؤدي إلى خلق ثقافة التعاون والتعاضد في البيئة المدرسية الضرورية لرفع معدلات الإنتاج وتحسين جودة مخرجات عمليتي التعليم والتعلم. ولكي يكون التواصل فعالاً يجب أن يتمتع بثلاث سمات أساسية: الأولى تحديد الوسائل، ويقصد بهذه السمة أن تحدد المدرسة بوضوح وسائل التواصل بين مختلف أعضائها في مختلف المناسبات والأحداث والمقصود بالوسائل هنا الاجتماعات والزيارات الصفية والتعميمات ورسائل الشكر والتقدير واللقاءات غير الرسمية وغير ذلك من الوسائل التي يمكن لكل مدرسة أن تستحدثها وفق ظروفها ومقتضيات العمل بها. الثانية وضوح الرسائل، فمن المهم جداً أن يكون الهدف من عقد أي اجتماع أو زيارة أو تعميم واضحاً للفئة التي تستهدفها ضمن أعضاء المدرسة حتى تؤتي المضامين التي تحملها تلك الوسائل ثمارها المتوقعة. الثالثة أن تحرص المدرسة كل الحرص على جعل التواصل بين أعضائها ذا مسارين وأن تتخذ الإجراءات اللازمة لذلك، كأن تتوخى دائماً الحصول على التغذية الراجعة حول القرارات التي تتخذها والفعاليات التربوية التي تنفذها.
هذا النوع من التواصل في المجتمع المدرسي لابد منه لكي تؤدي المدرسة دورها التربوي التعليمي بالصورة الصحيحة، وانعدامه يؤدي إلى بروز ثقافات أخرى مغايرة لثقافة التعاون والتعاضد التي أشرنا إليها أعلاه كما تشير الدراسات والبحوث التي أجريت في السنوات الأخيرة في عدد من الدول. والجدير بالذكر أن وجود هيكلية تنظيمية هرمية لا يمنع من بروز مثل تلك الثقافات التي تعرف أحياناً بأنها ثقافات تحتية (sub-cultures) خفية تخترق الثقافة العامة للمدرسة التي تضعف بضعف التواصل بين أعضائها.
في هذا الصدد يشير (Hargreaves & Fullan, 1998) مثلاً إلى ثلاثة أنواع من العلاقات غير المنتجة بين العاملين في أية مدرسة التي يمكن أن تحل محل ثقافة التعاون عند غيابها وهي: الأولى الفردية (fragmented individualism) وهي حالة عدم وجود علاقات مهنية حقيقية بين العاملين بالمدرسة وإنما الجو السائد يكون عبارة عن أفراد يعملون بمعزل عن الآخرين. الثانية الحزبية (balkanization) وهي حالة تسود فيها المدرسة علاقات مفتتة تربط مجموعات منفصلة من العاملين بالمدرسة وفق المواد مثلاً أو لاعتبارات شخصية لا علاقة للعمل التربوي بها. الثالثة الزمالة الوهمية (contrived collegiality) وهي حالة وجود علاقات مفروضة على العاملين بالمدرسة، تبدو في ظاهرها طيبة غير أنها في الحقيقة ليست كذلك. هذه العلاقات الثلاثة كلها ذات آثار غير إيجابية على العمل بالمدرسة بلا شك، وعلى المدرسة أن تبذل قصارى جهدها لضمان عدم بروزها وسيطرتها على أجواء العمل.
وفي ختام هذا المقال أود الإشارة إلى مسألة مهمة كثيراً ما تغفلها المؤسسات التربوية سواءً كانت المدارس أو غيرها من المؤسسات وهي مسألة التركيز على خدمة الطلاب وأولياء الأمور والمجتمع بصفة عامة كأوساط تهدف العملية التربوية التعليمية إلى خدمتها أساساً على حساب التركيز على العاملين بالمدرسة. نجاح المؤسسات الخدمية المختلفة اليوم قائم على أساس التركيز على البيئة الخارجية التي تخدمها المؤسسة وعلى البيئة الداخلية الذي يتكلف أعباء ومشقة تقديم تلك الخدمة معاً في آن واحد. هذا المبدأ يجب أن يكون جزءاً أساسياً من ثقافة أية مدرسة من خلال التواصل مع البيئة الداخلية للمدرسة المتمثلة في كافة العاملين بها من هيئات تدريسية وإدارية ومساندة.