تربية مستقبلية
خَرزاتٌ بلا نظام هذه المراحل، مشروع نظام بلا سلك. بل دُمَى أسلحة في دويرية لعب سميناها بُرجا، وزور ذخيرة، وبُهتان قذائف إِن لم يكن مشروع أمة الله وعبد الله، يتواصيان به وتفتح أعينها عليه الذرية، هو التقربُ من الله، وتهييء المستقبل إليه، وطلب الحظ منه. إن لم يكن المستقبل مع الله، والموعد الأخروي هو السلك الناظم، وحقيقة السلاح، وقوة الذخيرة، وفاعلية القذيفة فإنما الناس أقفاصٌ بلا طائر. ما سُمِّيَ الغثاء غثاءً إلا لاندثار القوة الماسكة والمطمح العالي والتشوف للشهادة ولقاء الله، لا تخيف الموتُ ولا تزعج عقبات الحياة.
من البيت الإسلامي تنطلق القومة، إن كان البيت يسكنه مومنون، وكانت قلوب المومنين يسكنها حب الله، والخوف من الله والرجاء. من البيت الإسلامي تنطلق القومة، وتمُرُّ بالمدرسة، وتستقوي بعد الله بمن سَمِع، ولبَّى، وسأل، وسُئل عنه، ولبّى النداء، والتفّ، واجتمع، وأيد، وانتظم. وكلها مراحل تربوية، تأخذ الأقرب فالأقرب السائر في الحياة بلا هدفٍ لتوقِظ فيه هم مستقبله الحقيقي الأبدي، ولتعقد له مع الله الصلح الكبير.
يصحو المسلمون والحمد لله، والقومة انطلقت بعون الله، والصادقات والصادقون في توبتهم لن يجدوا أمامهم مِن بين أنْكاثِ الأحزاب السياسية وأنقاض الأسرة المفككة من رُكن يأوون إليه، وصدق يعولون عليه إلا الدعوة تُمثلينها أنتِ يا أخت الإيمان. فانظري بأي وجه، وبأي فقه، وبأي تفانٍ تخدمين مع الله مستقبلك بما تمهدين ليخطُوَ الناس، وبما تُحببين ليحب الناس، وبما تصبرين ليصبر معكِ الناس.
جمع وتجميع وتصالح كبير يتسع من النواة الإيمانية الحية المهمومة بالمصيرين مقترِنين. مصيري مع ربي ومصير أمتي، يسألني عنه ربي إن ضيعت وقَعدت مع القاعدين. من النواة الإيمانية الإحسانية تتسع دائرة الصلح مع الله لتضم بحنان أهلَ المسجد المصلين، وأهلَ الغيرة القادمين، وأهل الغَناءِ المؤلفَةَ قلوبهم، المستورةَ عيوبُهم. يدري ضرورة طرح المشروع الإسلامي طرحا سياسيا جامعا من يستشْرِف المستقبل وعنده بَصيصُ علمٍ من مَطالعه، وعنده بالبؤس التاريخي العميق الذي تتخبط في قاعه الأمة دِراية.
ويدري الأهمية القصوى لطرح المشروع الإسلامي بما هو توبة وإيمان وتربية وإحسان وموت وآخرة ودرجات عند الله وقرب من الله، من يتعلم من الواقع، ويعتبر بتساقُط الأفراد من الدعوة، وانمساح بعض الدعوة من معاني الإيمان ومطامح الإحسان حتى لَكأنّ بعض الدعوة حزب سياسي من الأحزاب، إن ذكر بين المتجالسين فيه اسم الله فكلمةٌ تلفظها الشفتان.
سقطة تاريخية عميقة، وتتصدى لانتشال الأمة منها مَنْ لا لَهَا مع ربها مستقبل ترجوه! هذه بداية نَكسة لا بداية قومة. وطليعة تائبة عابدة راكعة ساجدة معزولة عن الشعب، لا عضَلَ لها منه، ولا عدَدَ، ولا عُدَّة، ولا عون، ولا ثقة ولا مشاركة. تلك جولة وتتراجع، وَمْضة برق بلا مطر، سحابة صيف وتنقشع.
ونُمسك بَعْدَها بذُنابِ عيْشٍ أجَبِّ الظَّهْرِ ليس له سَنـام
بدون أسرة سِلْكُ نظامها المعاشرة بالمعروف والبِر والتعاون عليه، وبدون سياسة تتوسع من نواة وتشع من مركز، وبدون مستقبلية أخروية يتوقد همها في قلوب المومنات والمومنين، فالعيش هُونٌ. خشاش مع الخشاش، في غدير ضفادعَ تنِقُّ، ومستنقع بعوض يتآكل. صورة من المشهد الغثائي. يتامى من ديننا، بل عاقُّون ناقّون.
إنما يُقَوِّي اللهُ، وينصر اللهُ، سائرات إلى مستقبلٍ لأمتهنَّ وعدَه الله، وفي قلب كل منهن جمرة حزنها على ذنبها، وإِرادة الزلفى عند ربها. لها مع الله قضية هي الحاكمة الموجهة الباعثة. هي المستقبل. وما يلفَح الوجوهَ من حَرّ حاضر الأمة وكآبة وضعها بطُمأنينة وثقة تعالجه المومنات. لا بترامٍ سياسي يتعجّل، ولا بتراخٍ مُبرِّرٍ يتأجّل. المستقبلان، الفردي عند الله والتاريخي في أرض الله، يُزحَف إليهما بعد إِعداد، تُقتحَم عقباتهما بإرادة، تُخطَّط مراحلهما بعلم، تُقطع المسافات إليهما بقوة لا بعنف.
الفرق بين العنف والقوة أن العنيف يحاول قلب موازين القوى في السياسة، وترجيح كِفة قوم على قوم، بمقتضى تعجله وتراميه لا سيرا مع سنة الله، وهي التدرج والمطاولة والصبر. القوة تُعِدّ وتتأنى وتصبر. السياسة ترامٍ، والتربية إعداد. والميدانان متداخلان، تنتعش التربية بالمكتسبات السياسية زمنا، فإن ارتدت السياسة على التربية انتهشتها، وربما قتلتها.
القوة إعداد، وبصَر بالحاضر، واستبصَار للمستقبلَيْن. )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل. ترهبون به عدوّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم. الله يعلمهم(.(سورة الأنفال، الآية: 61) رباط الخيل إعداد ومُدّةٌ وجُهد. تغرسين وتَسقين وتتعهدين، فإذا نضجت الثمرة فأدْنَى حركةٍ يجعلها تَسَّاقَط عليكِ رطَبا جنِيّاً، فكلي يا مريمَ الدعوةِ واشربي وقَرِّي عينا.
القوة تغَذَّى، وتُكتسَب. حملت الأمة رسالة الإسلام قوية على الحمل زمناً، وكان لها من العلم برسالتها يقين، ومن العلوم الكونية وسلاحها ورباط خيلها رِفد، وفي الصنائع كان لها القِدْح المُعَلَّى. ثم عجزت وخارَت قواها فهي منْبَطِحة. فكر معوَّق، قرآن مهجور، طاقات معطلة، هزيمة تاريخية، مستقبل غامض، تجارب مرة، كوارث وحوادث، عدو مفترس، هشاشة في البنية التقليدية ينم عنها اختراق الغزو الثقافي، خيانة القوات المساعدة للغزاة، يَنم عن خيانتهم ما يفعله الأعداء بالمومنين، والخونة جزء من التدبير طائعين بل مُحَرّضين.
إن بسطنا خارطة الصراع بين الحضارة الغربية تعززها فيالق المرتزقة من بني جلدتنا وبين الرسالة يحملها مستضعفون يبادون في شوارع مدن الجزائر وقرى مصر، برزت إلينا بالألْوان المتعارضة مكامن القوة والضعف. القوة المادية في يد الحضارة الغربية، والضّعفُ المادي فينا لا يُعوضه ولا يقوم مقامَه إيمان أعزَلُ لا علم معه بما هي خيل الساعة وما هو الرباط وما هو الإعداد.
تكون لِلأمهات كلمتهن في توجيه المدرسة، بل يُلقى عليهن حِملٌ من حِملها، وثقْلٌ من ثقلها. المدرسة -من المهد إلى اللحد- محور دائرة الصراع المستقبلي بين حضارة الأشياء، حضارة الاختراع، حضارة العلوم الكونية، وبين الرسالة العزلاء حاضرا، لا يرجى لها بلاغ ولا في دنيا المدافعة والمزاحمة مُطّلَعٌ إن لم تأخذ بأسباب القوة، وتتمكنْ من سلاح العلوم، وتُوَطن التكنولوجيا. إن كانت الصلاة والصيام والزكاة والحج تصدِّق شهادة أن لا إله إلا الله أو تكذبُها، فالتصديق بموعود الله وبالخلافة على منهاج النبوة تتوحد عليها الأمة، يكذبها أو يصدقها سعيُ المومنات والمومنين، وَجِدُّهم، وتفرُّغُهم، واستماتتُهم، لاكتساب ما قلنا، وتذليله وتوطينه وتسخيره.
معركة حاسمة مصيرية متسارعة في زمن متسارع بين أدمغة تفكر وتتعلم وتصنع وتبيع وتغزو وتغلب، وبين أدمغة أمية عضلية غثائية. مثالٌ من الجاهلية ماثل أمام أعيننا لو كنا نعتبر. اليابان تسيْطر الآن على ما بين ثمانين وخمسة وتسعين في المِائةِ من السوق العالمية للإلكترونيات والإعلاميات. يتقلص نصيبها إلى ثمانين في المائة في التكنولوجيات من الدرجة الثانية، ويتقدم إلى ما يقرب من السيطرة الكلية في الميادين الطليعية. لو يعتبر أذناب الغرب خونةُ دينهم بما يجري في العالم لتعلموا أن اليابان المحَلِّق هو نفس اليابان الغاطِس في تقاليده وخرافاته ودياناته حتى الأذقان.
لهم جذور، لهم أرضية مستقلة من ثقافتهم ولغتهم، لهم تصورهم للحاضر والمستقبل. لهم إرادة قومِية وتاريخ هم به متبجحون. لا جرَم تتوطد أقدامهم في الحاضر، ويغزون المستقبَلَ ممتدَّةٌ ظلالهم عليه. ما صرنا نحن غُثاء، وكلمةً دخيلة في قاموس التاريخ، إلا لإنكارنا أصولنا، وكفرَانِنا رِسالتنا، وجهلِنا بما نحن ومن أين جئنا أمة وإلى أين نصير بعد الموت فرادى.
جوهر القوة المستقبلية علوم. ورَد عِلم منها يُسمى المعلوميات فحمل على متنه سائر العلوم الكونية، وأسرع بها سرعة الإلكترون. احتمل علوم الذرة وكانت متفجرات فتقدم بها لتكون الطاقة المكمومة الخادمة. واحتملت الإعلاميات الطب ففتحت أمام هندسة الوراثة، وتشخيص الأمراض، وتركيب الأدوية، وتجريب الملقحات آفاقا بعيدة لا يَترَاءى مداها المتطلعون.
واحتمل المارد المعلومياتي الفلاحة والهندسة النباتية، فلولا أنه مارِد لأفاض على الإنسانية الخير حتى لا يبقى على وجهها جائع. لكنه يسخره المال والربح وحساب السوق، فلا يخدم إلا أنانية من في يدهم المال والسوق، إلههم المعبود الربح، والهَبَلُ لأمّ الأخلاق والإنسانية!
علوم المستقبل معلوميات وإلكترونيات وبصريات وتواصليات. الإدارة المستقبلية لا كإدارة الورق والأضابير والملفات والغبار العتيق. معمار المستقبل توازن في الأعالي معلق على أعمدة درسها الإلكترون. التدبير المنزلي المستقبلي خَدَم معلوماتي. معامل المستقبل أزرار يلبي طقطقتَها جيش من العبيد المكهرَبين. اقتصاد المستقبل تدفع به التسهيلات المعلوماتية ليكون حسابه أشبه بالعلم الدقيق.
قبائل ماردة من العلوم المستقبلية، ما يفعل غدا بها أعداء الإنسانية؟ ما يفعلون بها الآن وهي في يدهم أداة سيطرة؟ لو استفاق شيطان مثل النازية وقرر إبادة الأجناس المنحطة في نظره، وعقَّم، وصنَّع الجنس السيد؟ لو قرر شيطان إلكتروني الدماغ تصفية العِرق والدم غير النقي بأسلوب علمي غير أسلوب الصرب الهمجي؟
همجية علومية تتحكم في العلم بنظُم بيولوجية تغير خلق الله، وترنو إلى ما ادعاه فرعون من ألوهية. منذ الآن تسخر علوم المستقبل لخدمة أغنياء العالم وعلاج أمراض الأغنياء لا لتغذية جياع العالم. تسخَّر لتصنيع الصواريخ الذكية والطائرات الأشباح. الحكماء العلوميون وحفَظَةُ أسرار الاكتشافات ضمائرُ في قبضة الهيآت الرأسمالية الحاكمة، وهؤلاء في قبضة السوق. والسوق جاهلية ما لنا فيها موقع قدمٍ، ما لنا فيها متجر إلا أن نبسط على الأرض معرض فواكهنا الرطبة ووجوهَ نسائنا يرقصْن للسياح.
الثقافة الأبجدية الورقية ماض عتيق. والمستقبل صُوَرٌ رَقْمِيَّة، ودماغ بشري يوصل بأنظمة إعلامية فتعزز ملكاته. المستقبل تلفزيون مدقق، ثم تِلفزيون مُجَسَّد. استغنى الدماغ العلومي فطغى، فهو يستطلع ما وراء المادة، يحاول خرق الكون المنظور، يصنع بآلاته المستقبلية علما عجائبيا، يلعب بالرموز الرقمية، يحلُم، يغرق في الخيال مرَكِّباً من الذاكرة الإلكترونية برامج مبرمجة تصنع له الجنة. يبحث عن الله، لا يعرف الله. يبحث عن المجهول عسى يتفتق له المستقبل عن شيء.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
[flash][/flash]